كشفت حملة تنظيف تطوّعية للمقابر أطلقها ناشطون عبر ولايات الوطن، عن وجود أعمال سحر وشعوذة مدفونة بين الأموات، في مشاهد أعادت النقاش حول تفشّي ظاهرة السحر والشعوذة في المجتمع.
استطلاع: سليمان عبدوش
وأطلق المبادرة عدد من النشطاء الشباب والمتطوعين من المجتمع المدني، على مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف تنظيف المقابر من الأعشاب والنفايات وتحسين وضعها البيئي، غير أنها تحوّلت إلى حملة “تطهير من السحر”، بعدما تمّ العثور على طلاسم وأغراض غريبة مخبأة تحت التراب أو بين الأحجار والقبور وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت مقاطع فيديو وصور صادمة، منذ نهاية الأسبوع الماضي، توّثق حجم انتشار ظاهرة السحر المدفون داخل مقابر ولايات الوطن، التقطها المتطوعون خلال حملة التنظيف، حيث كشفت عن أعداد كبيرة من الأعمال السحرية التي تم دفنها عمدا داخل الأرض ورافقت المغرب الأوسط هؤلاء المتطوعين في العديد من المقابر، واكتشفت أمورا خطيرة وغريبة لخبايا سحر الموتى الذي تجاوز كل الحدود.
ومن داخل إحدى مقابر مدينة المشرية من ولاية النعامة، نشر ناشطون صورا لأغراض متنوّعة تمّ جمعها بعد استخراجها من باطن الأرض ومن بين القبور، بينها طلاسم مكتوبة بخطوط ورموز غريبة وخصلات شعر وملابس نسائية وصور أطفال ونساء ورجال، وبقايا عظام حيوانات وقطع قماش وبيض، وكلها أدوات استخدمت على ما يبدو في طقوس سحرية تهدف إلى الإيذاء.
واعتبر ناشطون أن ما كشف عنه لا يمثّل فقط خرقا للدين والمجتمع، بل يعدّ فضيحة وجريمة، تعبّر عن مدى تغلغل الجهل وممارسات السحر والشعوذة في بعض فئات المجتمع وكتب أحد الناشطين معلّقا “كميّة السحر التي تمّ إيجادها بعد حملات تنظيف بعض المقابر، يندى لها الجبين وتقشعر منها الأبدان، خاصة بعد أن تمّ الكشف عن أنّ بعض ضحاياها تعرّضوا بالفعل لمصائب في حياتهم، ينبغي على السلطات تركيز كاميرا مراقبة في محيط المقابر وملاحقة الدجّالين والمشعوذين الذين يعيشون بيننا” وينّص القانون الجزائري على عقوبات مشدّدة في أعمال السحر والشعوذة تصل إلى 10 سنوات سجنا.
كما انتشرت عمليات ترويج واسعة للمشعوذين عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر وسط تحذيرات من الانصياع لهم على رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في تسهيل التواصل بين الأفراد والجماعات داخل الجزائر وغيرها من الدول، إلا أنها باتت لدى فئات من المجتمع بيئة خصبة لنمو ظواهر سلبية، ومنها الشعوذة، الأمر الذي استدعى دق ناقوس الخطر صحياً وعائلياً في ظل المشكلات التي باتت تسجل في كل مرة.
وانتشرت فيديوهات لبائعي الأعشاب والبخور وبعض الأحجار الملونة، تشرح كيفية تحضير خلطات سحرية لطرد “النحس وجلب الحظ وعلاج أمراض مستعصية وأزمات نفسية”، بشكل يكشف عن “ضعف” في المجتمع تسببت فيه المشكلات الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية وفي وقت يتفق الجميع على أن اللجوء إلى الشعوذة إنما يعبر عن يأس، يبقى الذين يقفون وراء صفحات مختلف وسائط التواصل الاجتماعي يستهدفون كسب الثروة.
وتعد سهولة نشر المعلومات والتواصل مع أكبر عدد من الأشخاص وصعوبة وصول الجهات الأمنية، من بين أهم الأسباب التي دفعت المشعوذين إلى نقل طقوسهم نحو وسائط التواصل الاجتماعي، فهي أيسر السبل وأقلها كلفة، وعلى قدر انتشار الآفات الاجتماعية وطغيان الماديات، وتفكك العلاقات الأسرية مع ارتفاع نسبة الطلاق والعنوسة والخيانات الزوجية، عادت في مقابل ذلك مظاهر الجهل والاعتقاد بالخرافات.
الخريطة الاجتماعية والتكنولوجية السابقة أنعشت الشعوذة “الإلكترونية” في الجزائر التي بات اللجوء إليها تجنباً للحرج وتخفياً عن العائلة والمجتمع، بدل قصد البيوت والأماكن المشبوهة التي كانت مقار ممارستها في وقت سابق.
لم يعد الأمر مرتبطاً بفئة معينة من المجتمع مثلما كانت الحال من قبل مع الفئات الهشة والقرويين وكذلك أصحاب المستويات التعليمية المحدودة والأميين، بل تعداه إلى المسؤولين ورجال الأعمال والسياسيين والرياضيين والمشاهير والأثرياء، وكل من يبحث عن الحفاظ على مصالحه ومنصبه وسلطته وتحولت أعمال السحر والشعوذة إلى شماعة يعلق عليها الأشخاص أخطاءهم وفشلهم في التعامل مع بعض الأمور الحياتية، مثل تأخر الزواج أو عدم الإنجاب أو الطلاق أو الفشل الدراسي أو طول مدة البطالة، أو عدم النجاح في مشاريع وغيرها من المواضيع.
وما شجع هذه الطقوس على الانتشار، دخول تجار الأعشاب وبائعي العقاقير والزيوت العطرية على الخط عن قصد أو دون قصد، وذلك من خلال عرض خلطات طبية تشفي من الصداع أو الأورام أو الحروق والأمراض الجلدية وغيرها، وأخرى تصنف في خانة السحر والشعوذة، تجلب الحظ والزوج والزوجة، وتبعد العين والحسد وغير ذلك، وهدفهم لا يخرج عن دائرة تسويق منتجاتهم ليس إلا.
هؤلاء اختاروا لأنفسهم أسماء لا تفضح قبحهم، على غرار “الشيخ الروحاني” و”الروحانية” و”النوراني”، وكذلك “قارئة الحظ”، وغيرها من الأسماء التي تخفي اسم “ساحر”، والهدف إغراء ضعاف النفوس بجلب الحبيب خاضعاً ذليلاً، ورد المطلقة لزوجها رغماً عنه، وتزويج العانس وجلب الخاطب وفك الرصد وإخراج السجين وإلحاق الأذى بالغير والتدمير، إذ يضع هؤلاء أرقام هواتفهم للتواصل معهم على “واتساب” و”إيمو”، وغيرها من وسائل التواصل.
..استقطاب الشباب واستغلال آلام الناس
هنا يرى أستاذ علم الاجتماع، عبد النور.م، في حديثه لـ” المغرب الأوسط”، أن اختيار هؤلاء المشعوذين لمواقع التواصل الاجتماعي، الغرض منه استقطاب الفئات الشابة واستغلال آلام الناس لا سيما المرضى، مضيفاً أن الإحباط يدفع الإنسان إلى اعتبار كل الطرق مباحة للخروج من النفق المظلم، سواء تعلق الأمر بمشكلات زوجية أو عاطفية أو مهنية أو صحية، وهؤلاء من يقعون ضحايا المشعوذين الذين يوهمونهم في البداية بالرقية الشرعية، ثم يجدون أنفسهم يدفعون مبالغ مالية معتبرة لشراء الوهم.
ويواصل عبد النور، أن حملات الترويج للأعشاب والخلطات وبعض العقاقير عبر وسائط التواصل الاجتماعي والفضائيات وراء انتشار ظاهرة الشعوذة، مشيراً إلى الصراعات النفسية والضغوط الاجتماعية وطغيان الماديات والأحقاد، محذراً من أن استمرار اللجوء إلى الشعوذة الإلكترونية الذي من شأنه إثارة مشكلات صحية على اعتبار أن الخلطات ليست مبنية على طرق علمية، ما يترتب على ذلك انعكاسات صحية قد تودي بحياة طالب الصحة، أو تزيد من معاناته.
وتابع، “كما أن المشكلات العائلية تبقى أيضاً من محصلات اللجوء إلى هذه الظاهرة التي قد تتسبب في خصومات بين أفراد البيت تنتهي بجرائم أو حالات طلاق، على اعتبار أن هذه الحلول غير واقعية قد تدفع الزوج أو الزوجة في حال علمه بالأمر إلى التصرف بغضب وانتقام، كما قد تؤدي هذه الوصفات المشبوهة إلى أمراض يصعب علاجها”.من جهته، قال إمام مسجد ، إن ارتفاع نسبة الطلاق والعنوسة وانعدام الثقة بين الأزواج والمنافسة على التفوق في الدراسة والعمل للتفاخر والمشاحنة بين الأهل والأقارب والجيران، جعل الطريق إلى الشعوذة سهلاً، بخاصة أن هؤلاء المحتالين من المشعوذين يختبئون تحت عباءة الرقية الشرعية التي يستعملونها في البداية كطعم لاصطياد ضحاياهم.
وعبر الإمام ، عن أسفه من استغلال بعض المشعوذين لوسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي، إذ يتم تقديمهم على أنهم رقاة أو معالجون لأمراض عضوية باستعمال خلطات أعشاب، أو بما يسمى بـ”القطيع”، وأنهم متخصصون في التنمية البشرية، وختم بدعوة وزير العدل إلى قوانين ردعية وصارمة ضد السحرة والمشعوذين.
ووسط ردود الفعل المتباينة أرجع بعض رواد المواقع الاجتماعية انتشار ظاهرة السحر والشعوذة إلى نقص في الإيمان، حيث كتب معلق على فيسبوك “أثبتت عمليات تنظيف المقابر عبر التراب الوطني أننا نعيش أفظع فترة فراغ إيماني وبعد عن الله والعجب أن الرضع لم يسلموا من السحر”، وشاطره معلق آخر الرأي إذ قال ردا على منشوره “هذه نتيجة تغيب دور المساجد من تقليص دروس الدينية وحصرها فقط في خطب الجمعة التي تكون مجهزة مسبقا من الوزارة إذا غاب الوازع الديني فأنتظر الفساد في المجتمع لقوله تعالى ‘ظهر الْفساد في الْبرِّ وَالْبحرِ بمَا كَسَبت أَيدِي النَّاس لِيذِيقَهم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهم يَرجِعون'”.
وطالب حساب باسم “محمد سالم” على فيسبوك “الدولة بمنع النساء من زيارة المقابر ووضع كاميرات مراقبة.. كميات كبيرة من السحر لا توصف وجدت داخل القبور” وشددت مغردة عبر حسابها بموقع إكس على ضرورة أن تمنع الدولة الجزائرية النساء من زيارة المقابر ووضع كاميرات مراقبة، قائلة “كميات كبيرة من السحر لا توصف وجدت داخل القبور”.
وتوجهت صفحة على فيسبوك في منشور بالشكر “لكل من يقوم بتنظيف المقابر وإزالة هذه الأعمال الخبيثة.. نرجو من الجميع الاستمرار في هذا العمل النبيل، والتبليغ عن كل من يُمارس هذه الأفعال المؤذية” وأضافت في منشور آخر “ما وجدوه اليوم في المقابر من طلاسم وسحر لا يصدق الكل في صدمة من جرائم السحرة والمشعوذين حتى الأطفال الرضع لم يسلموا منهم حسبيا الله ونعمة الوكيل”.
وترى معلقة أخرى أن مظاهر الشعوذة والسحر تزايدت في المجتمع الجزائري في السنوات الأخيرة، وأصبحت المقابر ملاذا للكثير من السحرة والمشعوذين الذين يستغلون ضعف النفوس لتحقيق مآرب خبيثة، قائلة “من المؤسف أن نرى المقابر التي يفترض أن تكون مكانًا للخشوع والدعاء للميت، تُستغل في أعمال السحر الأسود، من دفن طلاسم إلى رش مواد نجسة وغيرها.