حين تصبح القيم غريبة في أوطانها: أزمة الهوية في زمن التيه العربي

0 111

في زمن الانفتاح المفرط، والتماهي مع كل ما يأتي من الخارج، صار من الصعب التمييز بين الأصالة والتقليد، بين التحرر والتحلل، وبين التطور والتشوّه. مجتمعاتنا العربية تمرّ بمرحلة خطيرة، مرحلة تتهاوى فيها القيم واحدة تلو الأخرى، وتصبح فيها الأخلاق مجرد خيار شخصي، لا معيارًا عامًا يحتكم إليه الجميع. ما نعيشه اليوم ليس انفتاحًا، بل تهتكًا ناعمًا، تغلغل إلى عمق الأسرة، إلى تفاصيل الحياة اليومية، إلى نظرتنا لأنفسنا ولما حولنا.

ما يؤلم حقًا ليس فقط مشاهدة هذا الانهيار، بل اعتياده، التطبيع معه، بل والدفاع عنه في بعض الأحيان. أن ترى شابًا أو فتاة في مقتبل العمر، يتباهى بسلوكيات تُجاهر بالفجور، ترقص بلا حياء، تتحدث بلا ضوابط، وتعيش وكأنها خارج الزمن، لا تنتمي إلى ما تعلّمه، ولا لما ورثه من ثقافة، فتلك مأساة عميقة. أن يحدث كل ذلك في وضح النهار، وأمام العلن، دون خجل أو شعور بالذنب، فذلك يطرح سؤالًا وجوديًا: كيف وصلنا إلى هنا؟

الأسرة التي كانت الحصن، بدأت تتلاشى. لم تعد الأم مربية كما كانت، ولم يعد الأب صمام أمان. تغلغل الإعلام الجديد، وتسللت التطبيقات والبرامج كالثعابين إلى كل بيت، أعادت تشكيل الذوق، والوجدان، وطريقة التفكير. لم تعد القيم تُلقّن، بل تُصوَّر على أنها عائق أمام “التحرر”، وغدت الحشمة عقدة، والغيرة رجعية، والحياء قيدًا ينبغي التخلّص منه. أصبحت الطفولة مستباحة، والمراهقة محرقة، والكهولة تائهة بين تأنيب الذات واللا جدوى.

والمجتمع، الذي كان يستند إلى منظومة أخلاقية واحدة، صار الآن يتأرجح بين أهواء متعددة، ومرجعيات هجينة، مما خلق حالة من التيه الجماعي. لم نعد نعرف من نحن، ولا ماذا نريد، ولا إلى أين نحن ذاهبون. اختلطت الأصوات، تضاربت التفسيرات، وكل فرد بات يعتبر أن الحقيقة في جيبه، والقيمة هي ما يراه هو. بهذا الشكل، لم نعد نحيا داخل مجتمع، بل داخل جزر منفصلة، كل واحدة تسبح في اتجاه، وكل واحدة تظن أنها وحدها على صواب.

وما يزيد الأمر خطورة، أن هذا الانحلال الأخلاقي لا يأتي دائمًا من باب الصدمة، بل أحيانًا يدخل من باب التسلية، الموضة، “الترند”، فيبدأ الناس بتقليده من دون أن يدركوا أنهم ينسفون أساس هويتهم. وسائل الإعلام تروّج للتفاهة، وتُقصي المضمون الجاد، وتُصدّر لنا نماذج سطحية، تُجمّل القبح، وتُزين الرذيلة. ومع الوقت، يضعف الحس النقدي لدى الفرد، فيصبح أكثر قابلية للتلقي، وأقل قدرة على المقاومة.

ليست هذه أزمة أخلاق فقط، بل أزمة هوية. الإنسان العربي اليوم يتعرض لعملية محو تدريجية لوعيه، واستبدال ناعم لقيمه، وتسليع مفضوح لعقله وجسده ووقته. بتنا نشهد مشهدًا سرياليًا: شباب يتحدثون عن الحرية وهم عبيد للشهرة، يتباهون بالاستقلالية وهم رهائن لإعجابات إلكترونية، يدّعون التمرد وهم مقلّدون حتى النخاع. لم يعد لدينا حس بالخطر، لأن الخطر صار يأتينا بلباس الجمال، وبموسيقى جذابة، وبمفردات براقة مثل: “تطور”، “حرية شخصية”، “خروج من القوالب”.

وهنا يظهر دور النخبة، دور المربين، والمثقفين، وأصحاب الرأي، الذين يجب أن لا يصمتوا أمام هذا الانهيار، بل يواجهوه بالحكمة والصدق والإبداع. لا يكفي أن نصرخ أو نلعن الظلام، بل يجب أن نضيء شمعة في كل زاوية. أن نعيد الاعتبار للقيم لا بالشعارات، بل بالممارسة، بالتربية، بالثقافة، بالفن النظيف، بالقدوة الحسنة. لا بد من خطاب جديد، لا يهاجم هذا الجيل، بل يحتضنه، ويشرح له بصدق كيف أن ما يُقدَّم له على أنه تحرر، ما هو إلا عبودية مغلفة.

التحضر لا يعني أن نخلع جلدنا لنُشبه الآخرين. التطور لا يفرض علينا أن نتنكر لماضينا، ولا أن نجلد أنفسنا لأننا مختلفون. نحن نملك تراثًا غنيًا، قيمًا إنسانية عظيمة، حضارة امتدت لقرون، فلماذا نستبدل الذي هو خير بالذي هو أدنى؟ لماذا نتخلّى طواعية عن عناصر قوّتنا، ونرتمي في أحضان مشروعات تغريبية لا ترى فينا سوى سوقًا للاستهلاك؟ الغرب لم ينجح فقط في تصدير أدواته، بل نجح في إقناع بعضنا أن هويتنا عبء، وأن خلاصنا في التشبّه به.

لكن رغم كل هذا السواد، لا يزال هناك أمل. لا تزال هناك أسر تُربّي، وشباب يُفكر، وبنات يعتزنّ بحيائهن، ورجال يرفضون الانسلاخ. لا تزال هناك أقلام تُقاوم، وعقول تقرأ، وقلوب تؤمن أن العودة إلى الأصل ليست رجعية، بل ضرورة. لقد تعبنا من الزيف، ومن القشور، ومن التردي باسم الحداثة. حان وقت العودة، لا إلى الوراء، بل إلى الجذور. العودة إلى الحياء، إلى النخوة، إلى أن تكون القيم بوصلة، لا قيدًا. أن يكون الدين نورًا، لا سيفًا. أن نُربي أبناءنا على الوعي، لا على التقليد. أن نعلّمهم أن الحرية مسؤولية، لا فوضى. أن نُذكّر أنفسنا دائمًا أن من لا يملك هويته، لا يملك مستقبله.

قد يبدو هذا الخطاب عاطفيًا، لكنه عاطفة ممزوجة بالوعي، بالغيرة الصادقة، بالحزن النبيل على ما كنّا عليه، وما صرنا إليه. قد لا نستطيع أن نُوقف التيار الجارف، لكننا نستطيع أن نقف في وجهه، أو على الأقل أن لا ننساق معه. الزمن يتغير، نعم، لكن القيم العظيمة لا تبلى، والمجتمعات التي تفقد أخلاقها، تفقد وجودها.

ربما لا نُدرك حجم الكارثة الآن، لأننا نعيشها. لكن سيأتي يوم نُحاسب فيه، لا على ما فعلنا فقط، بل على ما سكتنا عنه. وسيُسجَّل في كتب التاريخ أن جيلًا فرّط في الأمانة، وأن حضارة تهاوت، لا لأنها ضُربت من الخارج، بل لأنها انكسرت من الداخل.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

آخر الأخبار